محمد حسين فضل الله

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
08/07/2010 06:00 AM
GMT



صباح يوم أمس الأحد الرابع من تموز الجاري ودّع الحياة الدنيا المرجع الكبير محمد حسين فضل الله عن عمر ناهز الرابعة والسبعين إلى حيث رحمة الله التي نرجوها له ولنا وللناس أجمعين.
 
لماذا يا ترى اخترت هذا العنوان دون غيره لمقالتي، ولماذا أكتب كعلماني عن وفاة مرجع ديني مؤمن بالإسلام السياسي؟
 
وجدتني أختار عنوان هذه المقالة على النحو المذكور، من غير زيادة ولا نقصان، لأني أردتها مجردة من أي موقف.
 
أما الدوافع التي حثتني على الكتابة، فهي عديدة، منها أني كنت وكيل المرجع الفقيد في ألمانيا من 04/01/1997 ولغاية 08/02/2007، أي لعقد كامل، ومنها لتحولي باتجاه اعتماد العلمانية منذ 2006، ومنها كوني كنت في حزب الدعوة الإسلامية القريب من فضل الله لربع قرن (1981 – 2006)، ومنها لتميز فضل الله في كثير من ملامح فكره وفقهه وتفسيره وسياسته عن أكثر مراجع الدين الشيعة، ولعل من الدوافع هو ثمة وفاء بسبب علاقة حميمة بيني وبينه دامت لما يقارب الثلاثة عقود، رغم التقاطع بينه وبيني والذي بدأ سياسيا وانتهى فكريا، كما هو حالي مع حزب الدعوة، ومع عموم الإسلام السياسي، ومع الفكر المذهبي.
 
لن أكتب ربما كما يكتب آخرون عادة في مثل هذه المناسبات بالاقتصار على تسليط الضوء على ما أراه من إيجابيات ومحاسن في شخصية المرجع الفقيد، بل سأكتب كذلك من موقع النقد، وإن كان البعض سيقول أن النقد لا يناسب أجواء المناسبة، ففي مثل هذه الحال تذكر عادة محاسن الفقيد ويغض النظر عما سواه، ولكني أرى أن الموضوعية تستوجب عدم الوقوف على حدود العواطف وحدود المناسبة ومراعاة اللياقات، لأن مثل فضل الله ليس ملك نفسه، بل هو يمثل ظاهرة، وظاهرة متميزة بإيجابيات وبما دون ذلك، لا بد من الوقوف عندها عند تناول شخصيته، ولو إن بعض المراعاة لأجواء المناسبة يبقى مطلوبا.
 
سأتكلم عن فقهه وتفسيره وفكره، وعن نهجه السياسي، وعن خلقه، وعن علاقته بحزب الدعوة، وبحزب الله، وبإيران، وبالمخالفين مذهبيا وفقهيا ودينيا وسياسيا وفكريا، وليس آخرا عن علاقتي شخصيا به.
 
فضل الله كمحاضر ومؤلف:
خلافا للعرف لسائد للمرجعيات التقليدية زاول فضل الله الفكر، وانبرى لمهمة إلقاء المحاضرات، وانفتح على الإعلام المقروء والمسموع والمرئي؛ كل ذلك خلافا للعرف السائد، مما تعتبره الأجواء المحافظة للحوزة والمرجعية مخالفة لمتطلبات ما يسمونه بـ(الشأنية).
 
قبوله للحوار والنقد
إنصافا كان ينفرد فضل الله في تلقي النقد من مريديه ومن مخالفيه، فلطالما كنا نوجه له النقد في بعض تصريحاته ومواقفه، ونحاوره ونعترض على بعض مبانيه، فيناقشنا بكل أريحية ومن غير تشنج، وإن كان من طبعه أن يكون كلامه أكثر من استماعه لكلام المحاور في بعض الأحيان. ولكن هذه الخصلة بحد ذاتها نادرة جدا لدى المراجع وأعلام الحوزة العلمية للمذهب الشيعي.
 
فضل الله والفقه المتميز
لقد تميز حقا في الكثير من مبانيه الفقهية، مما خالف فيه المشهور، معتمدا قاعدة أن الشهرة لا تمثل حجة شرعية، مما يعتمده فقهاء آخرون، ولكنه انفرد من بين المراجع المعروفين بكثرة مخالفته للمشهور. وأذكر هنا منها بعضا من مبانيه الفقهية التي خالف فيها المشهور، ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
 
1.     لم يقل بشرط الذكورة في المرجعية، مما يعني جواز تبوؤ النساء للمرجعية الدينية.
 2.     لم يقل بشرط الأعلمية في المرجع، لأن الأعلمية من الأمور التي يصعب تحديدها.
 
3.     تبنى التبعيض في التقليد، مما يجيز للمتدين الشيعي الملتزم بشرط التقليد، أن يرجع في كل قضية إلى أي فقيه يشاء.
4.     في البداية تبنى جواز تقليد الميت ابتداءً، ولكنه وللأسف تخلى عن هذه الفتوى في وقت لاحق. أقول للأسف لأن الدليل العقلائي على اعتماد فتاوى المرجع الميت له من المتانة مما يجعل عدم الجواز خاليا من المبررات العقلائية، لاسيما أننا نعلم أن فضل الله كان يعول على الدليل العقلائي في مسألة التقليد، أكثر من اعتماده على الروايات. وقاعدته العقلائية كان يعبر عنها بقول وجوب رجوع الجاهل إلى العالم فيما يجهله، وكنت أتمنى لو كان قد عبر عن ذك برجوع غير المختص إلى المختص فيما لا اختصاص له فيه. أقول كل هذا بقطع النظر عن عدم إيماني حاليا بالمرجعية من ناحية الأدلة الشرعية، على قاعدة الإلزام، أي إلزام الملتزمين بالمذهب الشيعي بلوازمه وأدلته.
 5.     اعتماده قاعدة مساواة المرأة بالرجل في الحقوق على ضوء الآية «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف» في كثير من القضايا. ومما طبق عليه هذه القاعدة جواز رد المرأة على زوجها إذا ما استخدم العنف معها بعنف مثله دفاعا عن نفسها، أي إن ضربها لها أن تضربه، أو تحرض على ضربه إن عجزت.
 6.     أفتى بطهارة الإنسان عموما، منفردا بذلك، حيث ينقسم الفقهاء بين من يقول بطهارة أهل الكتاب ونجاسة غيرهم، أو بطهارة الموحدين ونجاسة المشركين، بينما ذهب آخرون إلى عدّ كل غير المسلمين نجسين. وأدلته غاية في المتانة، حيث فسر النص القرآني القاضي بنجاسة المشركين على أنها نجاسة معنوية لا يترتب عليها أثر شرعي، وأثبت صحة مبناه بأدلة من نفس القرآن والسنة.
 7.     اعتمد فتوى تحريم التدخين لحرمة الإضرار بالنفس إضرارا يعتد به ولثبوت أن التدخين يهدد حياة الإنسان، فيما  لا حرية له فيه. وقد اعتمد في ذلك على تطبيق قاعدة استوحاها من آية تحريم الخمر والميسر، بتحريم كل ما كان (إثمه) أكثر من (نفعه) مفسرا (الإثم) بـ(الضرر) بدليل التقابل بالتضادّ.
 8.     لم يعتبر التدخين من المفطرات، لعدم التلازم بين كون عمل ما محرما لذاته وبين كونه مبطلا لعمل ما، وتعليله أن التدخين ليس من صنف الأكل ولا الشرب، ولا هو من الممارسة الجنسية المبطلة للصيام كالجماع أو الإمناء، ولا هو من صنف الغبار الغليظ الداخل إلى الجهاز الهضمي.
 9.     حرم التطبير (ضرب الرؤوس بالآلة الجارحة كالسيف) وكل أنواع الشعائر الدينية العنيفة والمؤذية للنفس، مما يمارسه الكثير من الشيعة لحرمتين؛ حرمة الإضرار بالنفس، وحرمة تشويه سمعة الدين والمذهب.
 10. لم يجز العقود الصورية التي يرى شرعيتها الكثير من الفقهاء، كون العقد لا يصح إلا بقصد الجدية، ولا جدية في عقود الزواج والبيع والشراء والهبة الصورية، التي يعتمدها الكثير من المتدينين كمخرج شرعي من حرج ما، أو تحقيقا لمصلحة ما عبر العقود الصورية، أو هروبا من بعض الالتزامات والحقوق الشرعية، وقد استفاد الإسلاميون العراقيون من ثقافة المخارج الشرعية، إذ استخدمها بما يشبهها من مخارج دستورية، أي ممارسة مخالفة الدستور بحيل دستورية، كما هو الحال مع مخالفة الشرع بحيل شرعية.
 11. حسم موضوع تحديد البدايات الشرعية للأشهر القمرية للتقويم الديني الإسلامي (الهجري) باعتماد الحسابات الفلكية والرصد الفلكي في إثبات اليوم الذي يكون هلال أول الشهر ممكن الرؤية نظريا، ولو لم تتحق رؤيته فعليا.
 12. حرم ختان المرأة الممارس عرفيا في بعض الدول العربية كمصر والسودان.
 13. تبنى حلية ممارسة العادة السرية للمرأة في حالات خاصة، لكون الإنماء هو الثابت حرمته عنده، ولعدم وجود منيّ عند المرأة، خلاف ما يذهب إليه عدد كبير من الفقهاء، مما يخالف الحقائق العلمية، والتي استفاد منها في فتواه بمراجعة أهل الاختصاص.
 14. اعتبر سن التكليف عند البنت هو إكمالها لثلاثة عشر عاما قمريا، أي اثني عشر عاما وسبعة أشهر، بخلاف معظم فقهاء الشيعة الذين يقولون بأن سن التكليف عند البنت، مما يعني وجوب الصلاة والصيام والحجاب عليها، من يوم إكمالها لتسع سنوات قمرية، أي ثماني سنوات وثمانية أشهر.
 15. لم يفت بأي فتوى مستهجنة ومستنكرة، كما عند الكثير من الفقهاء، كالتمتع بالصغيرة، وكراهة تزويج للكرد لكونهم قوما من الجن، أو رضاع الكبار كما عند السنة، وغيرها من المضحكات والمستهجنات، والتي نفس وعقل لبيب.
 فضل الله وفاطمة الزهراء
تعرض فضل الله ولسنوات طويلة لحملة ظالمة شرسة من قبل خصومه من داخل المذهب، عندما عثروا على تسجيل صوتي لحوار له مع جمع من النساء، يرجع إلى سنوات قبل تصديه للمرجعية، حيث كانت سألته إحدى الحاضرات عن رأيه في دعوى أن الخليفة الثاني كان قد ضرب فاطمة الزهراء وكسر ضلعها، وملاحق تلك الحادثة كدخول مسمار الباب في صدرها، مما أدى إلى مرضها، وإسقاطها لجنينها محسن، مما يعني أن فاطمة ماتت مقتولة، وإن قاتلها هو الخليفة الثاني، فكان جوابه أن حصول ذلك غير ثابت عنده، مما عدّه متعصبوا الشيعة نفيا لمقولة أن عمر هو قاتل فاطمة، أو لا أقل أنه كسر لها ضلعها، فروّجوا لكون فضل الله قد جدد مظلومية فاطمة بنفي المظلومية عنها. وقد شارك فرقاء متناقضون فيما بينهم في هذه الحملة، فكان من المتصدرين للحملة كل من الشيرازيين والشيعة المحافظين والتقليديين غير المتسيسين بل وغير القائلين بشرعية العمل السياسي قبل ظهور الإمام المهدي، كما وشارك بشكل خفي في تلك الحملة بعض متبني الإسلام السياسي، ومنهم ذووا الولاء السياسي لإيران، كحزب الله اللبناني، والمجلس الأعلى العراقي، كما كانت هناك أصابع إيرانية وراء الحملة، ذلك انتقاما من قبل الإيرانيين من فضل الله بسبب رفضه تلبية طلبهم في التصدي للترويج لمرجعية خامنئي بعد وفاة الخميني.

 
فضل الله وحركة أمل
 كان يسعى السيد محمد حسين فضل الله من أجل أسلمة الحركة، لاسيما بعد اختطاف السيد موسى الصدر، وذلك بالتنسيق مع حزب الدعوة الإسلامية، الذي كان له آنذاك ثمة وجود في لبنان في إطار ما كان يسمى بإقليم لبنان، عندما كان الحزب أمميا، وله أقاليم إلى جانب إقليم العراق، بلد التأسيس، مثل إقليم لبنان وإقليم إيران وإقليم أفغانستان وإقليم الكويت. ولكنه أشاد في وقت لاحق بشخصية موسى الصدر، وبطروحاته المدنية (ولعله العلمانية) أي البعيدة عن تسييس الإسلام. 

 علاقة فضل الله بكل من حزب الله وإيران من جهة، وأمريكا وإسرائيل من جهة
اشتهر عن فضل الله في بداية تأسيس حزب الله من قبل الإيرانيين، حيث أمروا المنتسبين إلى حزب الدعوة بحلّ حزب الدعوة – إقليم لبنان كشرط لدعم إيران للإسلاميين الشيعة اللبنانيين؛ اشتهر عنه أنه المرشد الروحي للحزب. ولكن الحزب لم يكن منسجما مع فضل الله، لقربه من حزب الدعوة المتهم آنذاك بولائه المطلق لإيران وصدق تبنيه لولاية الفقيه والتزامه بلوازمها وفق الرؤية الإيرانية، ولكون فضل الله طرح نفسه في وقت لاحق مرجعا دينيا، بينما يعتبر حزب الله المرجعية الدينية للشيعة متجسدة حصرا فيمن يسمونه الولي الفقيه، وولي أمر المسلمين، ومرشد الثورة الإسلامية، والسيد القائد، خامنئي. فكان هناك وفاق ظاهري، وتناقض في العمق. ومع هذا اجتنب فضل التقاطع مع حزب الله وإيران وسوريا، بسبب المشترك بينه وبين هؤلاء الثلاثة، ألا هو العداء لأمريكا وإسرائيل. ومن هنا كان فضل الله من أكثر الفقهاء مرونة واعتدالا في القضايا الاجتماعية والمذهبية، لكنه بقي محسوبا على المتشددين فيما هي السياسة، أي فيما هو مبنى الإسلام السياسي، الذي كان يصطلح عليه فضل الله بـ(الإسلام الحركي)، بينما اصطلح خميني عليه بـ(الإسلام المحمدي) في مقابل ما أسماه بـ(الإسلام الأمريكي).
 
فضل الله وحزب الدعوة
كان فضل الله في لهجته وولادته وطفولته وشبابه وبداية حياته الحوزوية والفكرية والسياسية عراقيا أكثر من كونه لبنانيا. وكان كما هو الحال مع محمد مهدي شمس الدين في البداية في حزب الدعوة، كما كانا اربطا بمرجعية محسن الحكيم. وبعد انفكاكه تنظيميا بقي فضل الله محافظا على علاقة وطيدة مع حزب الدعوة، للمشتركات الكثيرة بينهما، فكلاهما يعتمدان الإسلام السياسي ومشروع أسلمة المجتمع، وكلاهما بقيا على مسافة من تجربة جمهورية إيران الإسلامية، فلم يعادياها، ولكن لم يندكا في مشروعها اندكاكا. وكلاهما لم يعتمدا الغلو في مجالاته الثلاثة، الغلو العقائدي بالقول بالولاية التكوينية للمعصوم، مما يجعله - نبيا أو إماما أو صديقة - ذا صفات إلهية من علم مطلق وقدرة كونية مطلقة ممنوحتين له من الله، والغلو الشعائري من تطبير وغيرها من شعائر متطرفة، وغلو سياسي في القول بولاية الفقيه المطلقة نظريا، والولاء المطلق للتجربة الإيرانية عمليا. فمع إن الإسلام السياسي كله متشدد وغير منسجم مع روح الديمقراطية، إلا أن فضل الله كان معتدلا وعقلانيا نسبيا أي في مقابل المتشددين والمتطرفين. هذا بقطع النظر عن وجهة نظري في سقوط حزب الدعوة في الامتحان السياسي في العراق، حيث كان مشاركا في مسؤولية ما ترتب على تسييس الدين واعتماد الطائفية السياسية والسكوت عن الدور الإيراني المؤذي.
 
علاقتي شخصيا بفضل الله

منذ أواسط الثمانينات وأنا على تواصل مكثف مع السيد محمد حسين فضل الله، حتى انتهت العلاقة بتعيينه إياي وكيلا شرعيا له في ألمانيا، حيث كتب الوكالة بخط يده في 24/ شعبان 1417، الموافق 04/01/1997، وجاء في الوكالة: «... وبعد فإن فضيلة الشيخ ضياء الشكرجي من خيرة المؤمنين الصالحين العاملين في سبيل الله الداعين إلى دينه الحنيف المبلغين لرسالاته. وإن مواصلته للعمل التبليغي لفترة طويلة وخلفيته في مجال الثقافة الإسلامية أكسبته خبرة جيدة في هذا المجال، ولأننا خبرنا إخلاصه لله سبحانه من خلال التواصل معه منذ سنين فإني أدعوكم إلى مؤازرته ودعم مشاريعه وإنجاح برامجه وخططه فيما يرضي الله ورسوله وأهل بيته الكرام. وقد وفقه الله للانضمام إلى دورة مركزة في علم الأصول والفقه النظري والتطبيقي وساهم في تدريسه فيها خيرة من أساتذة حوزتنا في الشام وقد اجتاز هذه المرحلة بنجاح كبير كما إنه شارك في تدريس مادة العقيدة في بعض حلقات حوزتنا، ولذك فقد كان جديرا بأن يتزيا بزيّ أهل العلم ويسلك هذا المسلك مقررا المواصلة للدرس بين وقت وآخر. وهو وكيلنا في الإشراف الديني والتربوي في ألمانيا، وهو مجاز من قبلنا في التصدي للأمور الحسبية الراجعة إلى الحاكم الشرعي ...».
 
وقد خلعت الزي المذكور في نهاية 2004، وأعلنت استقالتي من حزب الدعوة الإسلامية في 03/05/2006، وحسمت خيار العلماني في نهاية نفس السنة، وأعلنت إنهاء توكلي عن المرجع محمد حسين فضل الله في 08/02/2007، وفي 21/05/2009 أعلنت انفكاك مسؤوليتي عن دار الهدى في هامبُرڠ وكذلك عن الجمعية العراقية في ألمانيا، والتي كانت تمل سابقا اسم الجمعية الغسلامية العراقية في ألمانيا. وفيما يتعلق بإعلان التخلي عن توكلي عن المرجع الفقيد، لم يكن ذلك من جراء موقف شخصي، بل لاعتبارات مبدئية تتعلق بمباني السياسية والدينية والفلسفية التي انتهيت إليها عبر مخاضات ومراحل تطور متعددة.
 
وقد نشر إعلاني التخلي عن توكلي عن السيد على موقعي (كتابات) و(عراق الغد) في التاريخ المذكور، تحت عنوان «توضيح مهم: لست وكيلا لأي مرجع»، وجاء فيه: «بيان .. أعلن للجميع - وبقرار ذاتي - بأنني لست وكيلا لأي مرجع. ... لذا أنبه الإخوة والأخوات الذين ما زالوا يتعاملون معي، بصفتي وكيلا لأحد الأعلام من مراجع الدين، أن يعذروني عن مواصلتي لهذا الدور.» ثم كتبت عن خلفية الوكالة، وأعقبت ذلك بدوافع نشر هذا التوضيح بقولي:
 
«أكرر احترامي للمرجع الكبير الذي منحني تلك الوكالة بعبارات ما زلت أعتز بها. ولكني بصراحة، لم أعد أؤمن بصحة تصدي أي مرجع للقضايا السياسية، حتى لو كانت تلك المواقف على الأعم الأغلب هي الأرجح صوابا، وأقول الأرجح كون الصواب من غير شك يبقى أمرا نسبيا، ولإيماني الذي يستند إلى قواعد شرعية، لا يحتاج المرء عادة إلى بلوغ مرتبة الاجتهاد حتى يدركها ويتقن استخدامها، لا فقط بعدم وجوب، بل بعدم جواز التعامل مع الآراء والمواقف السياسية للمراجع المحترمين على أنها تمثل فتوى شرعية ملزمة، وحيث أن سماحة المرجع الذي منحني الوكالة من المتصدين، وبجدارة نسبة إلى غيره، ومن زمن طويل للشأن السياسي، ومن أجل ألا أسبب لسماحته حرجا، باعتبار أن فكري السياسي لا يلتقي مع كل طروحات سماحته، وربما يكون من غير المناسب أن تتقاطع ولو في بعض المفاصل المواقف والآراء السياسية لكل من الوكيل والمرجع مانح الوكالة مع بعضهما البعض؛ من هنا رأيت من الأرجح أن أتخلى عن تلك الوكالة، وأعلن ذلك.»
 
كما جاء في ذلك التوضيح ما يلي:
 
«أما فيما يتعلق برأيي بعدم اعتبار الآراء والمواقف السياسية للمراجع بمثابة الفتوى الملزمة، فقد بينت ذلك في مقالة تحت عنوان «ظاهرة الفتوى السياسية والموقف الشرعي منها» نشرت عام 2003 في صحيفة «البيان» التابعة لحزب الدعوة، ... ونشري لتلك المقالة هو ما جعل مكتب إحدى المرجعيات المتصدية في النجف الأشرف يستوضح من المسؤولين في الصحيفة وفي الحزب في حينها، عما إذا كان ذلك وبقية كتاباتي تمثل مواقف الحزب، فكان الجواب، بل هي تمثل آراء الكاتب، وقد كتب في وقتها أحد أعضاء القيادة مقالة يرد على مقالتي تلك، دون أن يناقش ما ورد فيها من أفكار، بل اقتصر على ذكر أن مواقف الحزب تستقى من مواردها الخاصة المعروفة، وأن آراء كاتب المقالة ضياء الشكرجي إنما تمثل رأيه الشخصي، وليس رأي الحزب. ولا أريد أن أذكر هنا كم من أفراد حزب الدعوة يحملون نفس القناعات التي طرحتها حينئذ، بل ونفس الأفكار التي أطرحها اليوم. على أي حال تلك المقالة كانت إحدى الأسباب التي جعلت بعض أعضاء اللجنة المكلفة من قبل المرجعية لفحص أهلية المرشحين لقائمة الائتلاف للدورة الأولى يصرون على شطب اسمي في البداية لكوني - كما عبروا - مناوئا للمرجعية. وهذا يعبر عن الثقافة السائدة لدينا، بوضع صاحب الرأي المتفاوت بأي درجة في خانة أو جبهة المناوأة، أو ما يعبر عنه أحيانا بما هو أشد من مجرد المناوأة...»
 
وبعد انقطاع طويل زرت المرجع فضل الله في آب 2009 في مكتبه في بيروت، ولم يكن لقاء وكيل بمرجع ولا مريد بمفكر، بل كان لقاء مرجع وشخصية دينية سياسية قيادية متصد لقيادة تيار الإسلام السياسي، وبين سياسي ومثقف علماني، حيث تقاطعنا في رؤانا في هذا اللقاء، مع احترامي لهذا الرجل، الذي لن تنجب المرجعية الشيعية مثله في وقت قريب، ولو إني أتمنى أن يأتي يوم يجرؤ فقيه على بيان ما توصل إليه، ألا هو ألا واقع حقيقيا ولا دليل شرعيا لموضوعة المرجعية، وإن الله يزن العباد بأعمالهم ونواياهم، بمعاملاتهم ومواقفهم وأخلاقهم، بإنسانيتهم واستقامتهم ونزاهتهم، لا بعقائدهم وعباداتهم وشكليات الدين.
 
 الفراغ الذي سيتركه فضل الله
سيعود الملتزمون دينيا من الشيعة المعتقدين بمقولة أن عملهم لا يكون مجزيا شرعا ولا مبرئا للذمة إلا عبر أحد ثلاثة طرق، هي الاجتهاد، أو التقليد، أو الاحتياط، وحيث أن أكثر الناس ليسوا من المجتهدين، والعمل بالاحتياط صعب وشاق ومكلف، فلا يبقى لهؤلاء إلا أن يقلدوا، أي يتبعوا فقيها ما، لذا سيعودون إلى دوامة وجوب تقليد الأعلم، وعدم جواز التبعيض، وعدم جواز العدول من مرجع إلى آخر، إلا بحصول القطع واليقين بأن المعدول إليه أعلم من المعدول عنه، وسيعودون إلى دوامة الاختلاف في تحديد أوائل الأشهر الشرعية، لاسيما أول رمضان وأول شوال، حتى اشتهر عن الشيعة تأخرهم دائما في يوم الصيام ويوم العيد عن سائر المسلمين، ولو إن السنة لطالما اختلفوا في تعيين أيامهم الشرعية فيما بينهم، كما اختلف اتلشيعة فيما بينهم، حتى حصل قبل سنوات أن كانت لعيد الفطر ثلاث بدايات في العالم الإسلامي. ثم حتى الذي سيريد العمل بفتاوى فضل الله من غير الذين كانوا يقلدونه في حياته، لن يستطيع ذلك، لعدم جواز تقليد الميت ابتداءً، والذي ذهب حتى فضل الله نفسه إلى تبنيه، بعدما أفتى في بداية تصديه للمرجعية بجواز ذلك. نعم يمكن الخروج من هذه المآزق التي لها بداية وليس لها نهاية، إذا ما توصل الشيعة وكافة المسلمين إلى عدم وجوب تقليد فقيه أو اتباع مفت محدد، بل اعتماد مجموعة قواعد شرعية أو عقلائية، ألا هي:
 
قاعدة التبعيض في التقليد.
قاعدة جواز العمل بفتوى الميت.
قاعدة اليسر.
قاعدة اعتماد جوهر الدين القيمي لا شكله الفقهي.
قاعدة اعتماد مرجعية العقل والضمير
قاعدة تدين الأخلاق لا تدين الأحكام.
كان بودي:
 
كان بودي أن أكتب أشياء أخرى، منها «فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين»، و«فضل الله والعراق»، و«فضل الله والخط الشيرازي»، و«فضل الله والمجلس الأعلى»، و«فضل الله ومشروع مأسسة المرجعية» الذي لم يكتمل.
 
ومع كل ما يقال يبقى الفقيه الفقيد محمد حسين فضل الله ظاهرة تستحق الاحترام والدراسة، حتى من قبل الذين اختلفوا معه، أي حتى بالنسبة لنا نحن العلمانيين سياسيا، والمؤمنين بمبدأ الحرية، وبقيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان.
 
رحم الله محمد حسين فضل الله، ورحمنا، ورحم الله الإنسانية جمعاء.
 
* وكيله في ألمانيا من 1997 – 2007
dia.alshakarchi@yahoo.de